فصل: من فوائد البيضاوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد البغوى في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} أي أخبر والبشارة كل خبر صدق تتغير به بشرة الوجه، ويستعمل في الخير والشر، وفي الخير أغلب {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي الفعلات الصالحات يعني المؤمنين الذين هم من أهل الطاعات قال عثمان بن عفان رضي الله عنه {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي أخلصوا الأعمال كما قال: {فليعمل عملا صالحا} [الكهف: 110] أي خاليا من الرياء. قال معاذ: العمل الصالح الذي فيه أربعة أشياء. العلم، والنية، والصبر، والإخلاص.
{أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} جمع الجنة، والجنة البستان الذي فيه أشجار مثمرة، سميت بها لاجتنانها وتسترها بالأشجار. وقال الفراء: الجنة ما فيه النخيل، والفردوس ما فيه الكرم.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا} أي من تحت أشجارها ومساكنها {الأنْهَار} أي المياه في الأنهار لأن النهر لا يجري وقيل {من تحتها} أي بأمرهم لقوله تعالى حكاية عن فرعون {وهذه الأنهار تجري من تحتي} [الزخرف: 51] أي بأمري والأنهار جمع نهر سمي به لسعته وضيائه. ومنه النهار. وفي الحديث: «أنهار الجنة تجري في غير أخدود» {كُلَّمَا} متى ما {رُزِقُوا} أطعموا {مِنْهَا} أي من الجنة من ثمرة أي ثمرة و{مِن} صلة {رِزْقًا} طعاما {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} وقبل رفع على الغاية. قال الله تعالى: {لله الأمر من قبل ومن بعد} [الروم: 4] قيل: من قبل في الدنيا وقيل: الثمار في الجنة متشابهة في اللون، مختلفة في الطعم، فإذا رزقوا ثمرة بعد أخرى ظنوا أنها الأولى {وَأُتُوا بِهِ} بالرزق {مُتَشَابِهًا} قال ابن عباس ومجاهد والربيع: متشابها في الألوان، مختلفا في الطعوم. وقال الحسن وقتادة: متشابها. أي يشبه بعضها بعضا في الجودة، أي كلها خيار لا رذالة فيها. وقال محمد بن كعب: يشبه ثمر الدنيا غير أنها أطيب. وقيل متشابها في الاسم مختلفا في الطعم. قال: ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسامي.
أنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار أنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي أنا محمد بن كثير أنا سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يبزقون، يلهمون الحمد والتسبيح، كما تلهمون النفس، طعامهم الجشاء، ورشحهم المسك».
قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا} في الجنان {أَزْوَاج} نساء وجواري يعني من الحور العين {مُطَهَّرَةٌ} من الغائط، والبول، والحيض، والنفاس، والبصاق، والمخاط والمني، والولد، وكل قذر قال إبراهيم النخعي: في الجنة جماع ما شئت ولا ولد. وقال الحسن: هن عجائزكم الغمص العمش طهرن من قذرات الدنيا. وقيل: مطهرة عن مساوئ الأخلاق {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} دائمون لا يموتون فيها ولا يخرجون منها.
أنا أبو عمرو عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو حامد أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف الفربري، أنا محمد بن إسماعيل البخاري أنا قتيبة بن سعيد، أنا جرير عن عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتفلون ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة وأزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء».
أنا عبد الواحد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي أنا علي بن الجعد أنا فضيل هو ابن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول زمرة تدخل الجنة يوم القيامة صورة وجوههم مثل صورة القمر ليلة البدر، والزمرة الثانية على لون أحسن الكواكب في السماء لكل رجل منهم زوجتان، على كل زوجة سبعون حلة، يرى مخ سوقهم دون لحومها ودمائها وحللها».
أنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي المروزي أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني، أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير المدني عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأت ما بينهما ريحا، ولتاجها على رأسها خير من الدنيا وما فيها». صحيح أخرجه محمد بن عبد الله بن محمد عن معاوية بن عمر عن أبي إسحاق عن حميد.
أنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني أنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي أنا عبد الله بن محمد بن مسلم أنا أبو بكر الجوربذي أنا أحمد بن الفرج الحمصي أنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار أنا محمد بن المهاجر عن الضحاك المعافري عن سليمان بن موسى حدثني كريب أنه سمع أسامة بن زيد يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا هل من مشمر للجنة، وإن الجنة لا خطر لها وهي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز، وقصر مشيد ونهر مطرد، وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة ومقام أُبِدٍ في دار سليمة وفاكهة خضرة، وحبرة، ونعمة في محلة عالية بهية» قالوا: نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها قال: «قولوا إن شاء الله» قال القوم: إن شاء الله.
وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم».
أنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي أنا الحاكم أبو الفضل الحدادي أنا أبو يزيد محمد ابن يحيى بن خالد أنا إسحاق الحنظلي أنا أبو معاوية أنا عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعيد عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة لسوقا ليس فيها بيع ولا شراء إلا الصور من الرجال والنساء، فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيها، إن فيها لمجتمع الحور العين ينادين، بصوت لم يسمع الخلائق مثله: نحن الخالدات فلا نبيد أبدا، ونحن الناعمات فلا نبأس أبدا، ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا، فطوبى لمن كان لنا وكنا له أو نحن له» ورواه أبو عيسى عن هناد وأحمد بن منيع عن أبي معاوية مرفوعا وقال: هذا حديث غريب. أنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي أنا محمد بن عيسى الجلودي أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحجاج أنا أبو عثمان سعيد بن عبد الجبار البصري أنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلهم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا فيقولون وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا». اهـ.

.من فوائد ابن الجوزى في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله تعالى: {وبشر الذين آمنوا}.
البشارة: أول خبر يرد على الإنسان، وسمي بشارة، لأنه يؤثر في بشرته، فإن كان خيرًا، أثر المسرة والانبساط، وإن شرًا، أثر الانجماع والغم، والأغلب في عرف الاستعمال أن تكون البشارة بالخير، وقد تستعمل في الشر، ومنه قوله تعالى: {بشر المنافقين بأن لهم عذابًا أليمًا} [النساء: 138].
قوله تعالى: {وعملوا الصّالحات}.
يشمل كل عمل صالح، وقد روي عن عثمان بن عفان أنه قال: أخلصوا الأعمال.
وعن على رضي الله عنه أنه قال: أقاموا الصلوات المفروضات.
فأما الجنات، فجمع جنَّة.
وسميت الجنة جنة، لاستتار أرضها بأشجارها، وسمي الجن جنًا، لاستتارهم، والجنين من ذلك، والدّرع جنة، وجن الليل: إذا ستر، وذكر عن المفضل أن الجنة: كل بستان فيه نخل.
وقال الزجاج: كل نبت كثف وكثر وستر بعضه بعضًا، فهو جنة.
قوله تعالى: {تجري من تحتها} أي: من تحت شجرها لا من تحت أرضها.
قوله تعالى: {هذا الذي رُزِقْنا من قبل} فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن معناه: هذا الذي طعمنا من قبل، فرزق الغداة كرزق العشيّ، روي عن ابن عباس والضحاك ومقاتل.
والثاني: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، قاله مجاهد وابن زيد.
والثالث: أن ثمر الجنة إذا جُنيَ خلفه مثله، فإذا رأوا ما خلف الجنى، اشتبه عليهم، فقالوا: {هذا الذي رزقنا من قبل} قاله يحيى بن أبي كثير وأبو عبيدة.
قوله تعالى: {وأُتوا به متشابهًا}.
فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه متشابه في المنظر واللون، مختلف في الطعم، قاله مجاهد وأبو العالية والضحاك والسدي ومقاتل.
والثاني: أنه متشابه في جودته، لا رديء فيه، قاله الحسن وابن جريج.
والثالث: أنه يشبه ثمار الدنيا في الخلقة والاسم، غير أنه أحسن في المنظر والطعم، قاله قتادة وابن زيد.
فإن قال قائل: ما وجه الامتنان بمتشابهه، وكلّما تنوعت المطاعم واختلفت ألوانها كان أحسن؟! فالجواب: أنا إن قلنا: إنه متشابه المنظر مختلف الطعم، كان أغرب عند الخلق وأحسن، فانك لو رأيت تفاحة فيها طعم سائر الفاكهة، كان نهاية في العجب.
وإن قلنا: إنه متشابه في الجودة؛ جاز اختلافه في الألوان والطعوم.
وإن قلنا: إنه يشبه صورة ثمار الدنيا مع اختلاف المعاني؛ كان أطرف وأعجب، وكل هذه مطالب مؤثرة.
قوله تعالى: {ولهم فيها أزواجٌ مُطهَّرة} أي: في الخَلْق، فانهن لا يحضن ولا يبلن، ولا يأتين الخلاء.
وفي الخُلُق، فانهن لا يحسدن، ولايغرن، ولا ينظرن إلى غير أزواجهن.
قال ابن عباس: نقية عن القذى والأذى.
قال الزجاج: و{مطهَّرة} أبلغ من طاهرة، لأنه للتكثير.
والخلود: البقاء الدائم الذي لا انقطاع له. اهـ.

.من فوائد البيضاوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أَنَّ لَهُمْ جنات} عطف على الجملة السابقة، والمقصود عطف حال من آمن بالقرآن العظيم ووصف ثوابه، على حال من كفر به، وكيفية عقابه على ما جرت به العادة الإلهية من أن يشفع الترغيب بالترهيب، تنشيطًا لاكتساب ما ينجي، وتثبيطًا عن اقتراف ما يردي، لا عطف الفعل نفسه حتى يجب أن يطلب له ما يشاكله من أمر أو نهي فيعطف عليه أو على فاتقوا، لأنهم إذا لم يأتوا بما يعارضه بعد التحدي ظهر إعجازه، وإذا ظهر ذلك فمن كفر به استوجب العقاب، ومن آمن به استحق الثواب، وذلك يستدعي أن يخوف هؤلاء ويبشر هؤلاء، وإنما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، أو عالم كل عصر، أو كل أحد يقدر على البشارة بأن يبشرهم. ولم يخاطبهم بالبشارة كما خاطب الكفرة، تفخيمًا لشأنهم وإيذانًا بأنهم أحقاء بأن يبشروا ويهنأوا بما أعد لهم.
وقرئ: {وَبَشّرِ} على البناء للمفعول عطفًا على أعدت فيكون استئنافًا. والبشارة: الخبر السار فإنه يظهر أثر السرور في البَشْرة، ولذلك قال الفقهاء البشارة: هي الخبر الأول، حتى لو قال الرجل لعبيده: من بشرني بقدوم ولدي فهو حر، فأخبروه فرادى عتق أَوَلُهُم، ولو قال: من أخبرني، عتقوا جميعًا، وأما قوله تعالى: {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فعلى التهكم أو على طريقة قوله:
تحِيَّةُ بَيْنِهمْ ضَرْبٌ وَجيْعُ

و{الصالحات} جمع صالحة وهي من الصفات الغالبة التي تجري مجرى الأسماء كالحسنة، قال الحطيئة:
كَيْفَ الهِجَاءُ وما تَنْفَكُّ صالحة ** من آل لامٍ بظُهْرِ الغَيْبِ تَأْتِيني

وهي من الأعمال ما سوغه الشرع وحسنه، وتأنيثها على تأويل الخصلة، أو الخلة، واللام فيها للجنس، وعطف العمل على الإيمان مرتبًا للحكم عليهما إشعارًا بأن السبب في استحقاق هذه البشارة مجموع الأمرين والجمع بين الوصفين، فإن الإيمان الذي هو عبارة عن التحقيق والتصديق أَسٌّ، والعمل الصالح كالبناء عليه، ولا غناءَ بأْسٍ لا بناء عليه، ولذلك قلما ذكرا منفردين. وفيه دليل على أنها خارجة عن مسمى الإيمان، إذ الأصل أن الشيء لا يعطفُ على نفسه ولا على ما هو داخل فيه.
{أَنَّ لَهُمْ} منصوب بنزع الخافض وإفضاء الفعل إليه، أو مجرور بإضماره مثل: الله لأفعلن. والجنة: المرة من الجن وهو مصدر جنة إذا ستره، ومدار التركيب على الستر، سمي بها الشجر المظلل لالتفاف أغصانه للمبالغة كأنه يستر ما تحته سترة واحدة قال زهير:
كأنَّ عَيني في غَربي مقتلَة ** من النواضِحِ تَسْقي جَنَّةً سُحُقا

أي نخلًا طوالًا، ثم البستان، لما فيه من الأشجار المتكاثفة المظللة، ثم دار الثواب لما فيها من الجنان، وقيل: سميت بذلك لأنه ستر في الدنيا ما أعد فيها للبشر من أفنان النعم كما قال سبحانه وتعالى:
{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وجمعها وتنكيرها لأن الجنان على ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما سبع: جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، ودار الخلد، وجنة المأوى، ودار السلام، وعِلِّيُون، وفي كل واحدة منها مراتب ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال. واللام في {لَهُمْ} تدل على استحقاقهم إياها، لأجل ما ترتب عليه من الإيمان والعمل الصالح، لا لذاته فإنه لا يكافئ النعم السابقة، فضلًا عن أن يقتضي ثوابًا وجزاء فيما يستقبل بل بجعل الشارع، ومقتضى وعده تعالى لا على الإطلاق، بل بشرط أن يستمر عليه حتى يموت وهو مؤمن لقوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم} وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وأشباه ذلك، ولعله سبحانه وتعالى لم يقيد هاهنا استغناء بها.
{تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي من تحت أشجارها، كما تراها جارية تحت الأشجار النابتة على شواطئها. وعن مسروق أنهار الجنة تجري في غير أخدود: واللام في {الأنهار} للجنس، كما في قولك لفلان: بستان في الماء الجاري، أو للعهد، والمعهود: هي الأنهار المذكورة في قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءَاسِنٍ} الآية. والنهر بالفتح والسكون: المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر، كالنيل والفرات، والتركيب للسعة، والمراد بها ماؤها على الإضمار، أو المجاز، أو المجاري أنفسها. وإسناد الجري إليها مجاز كما في قوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} الآية.
{كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا} صفة ثانية لجنات، أو خبر مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة. كأنه لما قيل: إن لهم جنات، وقع في خلد السامع أثمارها مثل ثمار الدنيا، أو أجناس أخر فأزيح بذلك، و{كُلَّمَا} نصب على الظرف، و{رِزْقًا} مفعول به، ومن الأولى والثانية للابتداء واقعتان موقع الحال، وأصل الكلام ومعناه: كل حين رزقوا مرزوقًا مبتدأ من الجنات مبتدأ من ثمرة، قيد الرزق بكونه مبتدأ من الجنات، وابتداؤه منها بابتدائه من ثمرة فصاحب الحال الأولى رزقًا وصاحب الحال الثانية ضميره المستكن في الحال، ويحتمل أن يكون من ثمره، بيانًا تقدم كما في قولك: رأيت منك أسدًا، وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا كقولك مشيرًا إلى نهر جار: هذا الماء لا ينقطع، فإنك لا تعني به العين المشاهدة منه، بل النوع المعلوم المستمر بتعاقب جريانه وإن كانت الإشارة إلى عينه، فالمعنى هذا مثل رزقنا ولكن لما استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته كقولك: أبو يوسف أبو حنيفة.
{مِن قَبْلُ} أي: من قبل هذا في الدنيا، جعل ثمر الجنة من جنس ثمر الدنيا لتميل النفس إليه أول ما يرى، فإنه الطباع مائلة إلى المألوف متنفرة عن غيره، ويتبين لها مزيته وكنه النعمة فيه، إذ لو كان جنسًا لم يعهد ظن أنه لا يكون إلا كذلك، أو في الجنة لأن طعامها متشابه في الصورة، كما حكى ابن كثير عن الحسن رضي الله عنهما: «أن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك، فيقول الملك: كل فاللون واحد والطعم مختلف».
أو كما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «والذي نفس محمد بيده، إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه، حتى يبدل الله تعالى مكانها مثلها» فلعلهم إذ رأوها على الهيئة الأولى قالوا ذلك، والأول أظهر لمحافظته على عموم {كُلَّمَا} فإنه يدل على ترديدهم هذا القول كل مرة رزقوا، والداعي لهم إلى ذلك فرط استغرابهم وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللذة والتشابه البليغ في الصورة.
{وَأُتُواْ بِهِ متشابها} اعتراض يقرر ذلك، والضمير على الأول راجع إلى ما رزقوا في الدارين فإنه مدلول عليه بقوله عز من قائل: {هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} ونظيره قوله عز وجل: {إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فالله أولى بِهِمَا} أي بجنسي الغني والفقير، وعلى الثاني إلى الرزق. فإن قيل: التشابه هو التماثل في الصفة، وهو مفقود بين ثمرات الدنيا والآخرة كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ليس في الجنة من أطعمة إلا الأسماء. قلت: التشابه بينهما حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم دون المقدار والطعم، وهو كاف في إطلاق التشابه. هذا: وإن للآية الكريمة محملًا آخر، وهو أن مستلذات أهل الجنة في مقابلة ما رزقوا في الدنيا من المعارف والطاعات، متفاوتة في اللذة بحسب تفاوتها، فيحتمل أن يكون المراد من {هذا الذي رُزِقْنَا} أنه ثوابه، ومن تشابههما تماثلهما في الشرف والمزية وعلو الطبقة، فيكون هذا في الوعد نظير قوله: {ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الوعيد.
{وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ} مما يستقذر من النساء ويذم من أحوالهن، كالحيض والدرن ودنس الطبع وسوء الخلق، فإن التطهير يستعمل في الأجسام والأخلاق والأفعال. وقرئ: {مطهرات} وهما لغتان فصيحتان يقال النساء فعلت وفعلن، وهن فاعلة وفواعل، قال:
وإذَا العَذَارى بالدّخَانِ تَقَنَّعَت ** واسْتَعَجلتْ نَصْبَ القُدورِ فملَّت

فالجمع على اللفظ، والإِفراد على تأويل الجماعة، ومطهرة بتشديد الطاء وكسر الهاء بمعنى متطهرة، ومطهرة أبلغ من طاهرة ومطهرة للإشعار بأن مطهرًا طهرهن وليس هو إلا الله عز وجل. والزوج يقال للذكر والأنثى، وهو في الأصل لما له قرين من جنسه كزوج الخف، فإن قيل: فائدة المطعوم هو التغذي ودفع ضرر الجوع، وفائدة المنكوح التوالد وحفظ النوع، وهي مستغنى عنها في الجنة. قلت: مطاعم الجنة ومناكحها وسائر أحوالها إنما تشارك نظائرها الدنيوية في بعض الصفات والاعتبارات، وتسمى بأسمائها على سبيل الاستعارة والتمثيل، ولا تشاركها في تمام حقيقتها حتى تستلزم جميع ما يلزمها وتفيد عين فائدها.
{وَهُمْ فِيهَا خالدون} دائمون. والخلد والخلود في الأصل الثبات المديد دام أم لم يدم، ولذلك قيل للأثافي والأحجار خوالد، وللجزء الذي يبقى من الإنسان على حاله ما دام حيًا خلد، ولو كان وضعه للدوام كان التقييد بالتأبيد في قوله تعالى: {خالدين فِيهَا أَبَدًا} لغوا واستعماله حيث لا دوام، كقولهم وقف مخلد، يوجب اشتراكًا، أو مجازًا. والأصل ينفيهما بخلاف ما لو وضع للأعم منه فاستعمل فيه بذلك الاعتبار، كإطلاق الجسم على الإنسان مثل قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد} لكن المراد به هاهنا الدوام عند الجمهور لما يشهد له من الآيات والسنن.
فإن قيل: الأبدان مركبة من أجزاء متضادة الكيفية، معرضة للاستحلالات المؤدية إلى الانفكاك والانحلال فكيف يعقل خلودها في الجنان. قلت: إنه تعالى يعيدها بحيث لا يعتورها الاستحالة بأن يجعل أجزاءها مثلًا متقاومة في الكيفية، متساوية في القوة لا يقوي شيء منها على إحالة الآخر، متعانقة متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض كما يشاهد في بعض المعادن.
هذا وإن قياس ذلك العالم وأحواله على ما نجده ونشاهده من نقص العقل وضعف البصيرة. واعلم أنه لما كان معظم اللذات الحسية مقصورًا على: المساكن والمطاعم، والمناكح، على ما دل عليه الاستقراء كان ملاك ذلك كله الدوام والثبات، فإن كل نعمة جليلة إذا قارنها خوف الزوال كانت منغصة غير صافية من شوائب الألم، بشر المؤمنين بها ومثل ما أعد لهم في الآخرة بأبهى ما يستلذ به منها، وأزال عنهم خوف الفوات بوعد الخلود ليدل على كمالهم في التنعم والسرور. اهـ.